فصل: فيه مسائل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


* فيه مسائل

الأولي‏:‏ أن من فهم هذا الباب وبابين بعده؛ تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب‏.‏

فيه مسائل

* · الأولى‏:‏ أن من فهم هذا الباب ـ أي‏:‏ بما مر من تفسير الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وقالوا لا تذرن آلهتكم‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏ ـ وبا بين بعده؛ تبين له غربة الإسلام‏.‏

وهذا حق؛ فإن الإسلام المبني على التوحيد الخالص غريب، فكثير من البلدان الإسلامية تجد فيها الغلو في الصالحين في قبورهم؛ فلا تجد بلدا مسلما إلا وفيه غلو في قبور الصالحين، وقد يكون ليس قبر رجل صالح، قد يكون وهما مثل قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما؛ فأهل العراق يقولون‏:‏ هو عندنا، وأهل الشام يقولون‏:‏ عندنا، وأهل مصر يقولون‏:‏ عندنا، وبعضهم يقول‏:‏ هو في المغرب؛ فصار الحسين إما أنه أربعة رجال، أو مقطعًا أوصالا، وهذا كله ليس بصحيح؛ فالمهم أنه كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب‏:‏ تبين لك غربة الإسلام أي في المسلمين‏.‏

وكذلك الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها قبور وقباب تعبد من دون الله ويحج إليها وتقصد، ولكن بتوفيق الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه أعان هذا الرجل مع الإمام محمد بن سعود حتى قضى عليها وهدمها، وصارت البلاد ولله الحمد على التوحيد الخالص‏.‏

الثانية‏:‏ معرفة أول شرك حدث في الأرض؛ كان بشبهة الصالحين‏.‏

الثالثة‏:‏ معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم‏.‏ الرابعة‏:‏ قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها‏.‏

* الثانية‏:‏ معرفة أول شرك حدث في الأرض، وجه ذلك‏:‏ أن هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا أقواما صالحين، فحدث الغلوفيهم، ثم عبدوا من دون الله؛ ففيه الحذر من الغلوفي الصالحين‏.‏

* الثالثة‏:‏ معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم، أول شيء غير به دين الأنبياء هوالشرك، وسببه هو الغلو في الصالحين، وقوله‏:‏ ‏(‏مع معرفة أن الله أرسلهم‏)‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية213‏]‏؛ أي‏:‏ كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ فهذا أول ما حدث من الشرك في بني آدم‏.‏

* · الرابعة‏:‏ قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبول البدع‏)‏، أي‏:‏ أن النفوس تقبلها لا لأنها مشروعة، بل إن الشرائع تردها، وكذلك الفطر السليمة تردها؛ لأن الفطر السليمة جبلت على عبادة الله وحده لا شريك له؛ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ من الآية30‏]‏؛ فالفطر السليمة لا تقبل تشريعا إلا ممن يملك ذلك‏.‏

الخامسة‏:‏ أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل‏:‏ فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره‏.‏

* الخامسة‏:‏ أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن مزج الحق بالباطل حصل بأمرين‏:‏

الأول‏:‏ محبة الصالحين، ولهذا صوروا تماثيلهم محبة لهم، ورغبة في مشاهدة أشباحهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن أهل العلم والدين أرادوا خيرًا، وهو أن ينشطوا على العبادة، ولكن من بعدهم أرادوا غير الخير الذي أراده أولئك، ويؤخذ منه‏:‏ أن من أراد تقوية دينة ببدعة؛ فإن ضررها أكثر من نفعها‏.‏

مثال ذلك‏:‏ أولئك الذين يغلون في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويجعلون له الموالد هم يريدون بذلك خيرًا، لكن أرادوا خيرًا بهذه البدعة، فصار ضررها أكثر من نفعها؛ لأنها تعطي الإنسان نشاطًا غير مشروع في وقت معين، ثم يعقبه فتور غير مشروع في بقية العام‏.‏

ولهذا تجد هؤلاء الذين يغالون في هذه البدع فاترين في الأمور المشروعة الواضحة ليسوا كنشاط غيرهم، وهذا مما يدل على تأثير البدع في القلوب وأنها مهما زينها أصحابها؛ فلا تزيد الإنسان إلا ضلالاَ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏كل بدعة ضلالة‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الجمعة/ باب تخفيف الصلاة والخطبة‏.‏‏]‏ 0

فإن قيل‏:‏ إن للاحتفال بمولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصلًا من السنة، وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن صوم يوم الاثنين؛ فقال‏:‏ ‏(‏ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل على فيه‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الصيام/باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر‏.‏‏]‏، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصومه مع الخميس ويقول‏:‏ ‏(‏إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله؛ فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم‏)‏ ‏[‏الترمذي‏:‏ كتاب الصوم/ باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس، 3/94، وقال‏:‏ ‏(‏حديث حسن غريب‏)‏‏.‏‏]‏

فالجواب على ذلك من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن الصوم ليس احتفالًا بمولده كاحتفال هؤلاء، وإنما هوصوم وإمساك، أما هؤلاء الذين يجعلون له الموالد؛ فاحتفالهم على العكس من ذلك‏.‏

فالمعنى‏:‏ أن هذا اليوم إذا صامه الإنسان؛ فهويوم مبارك حصل فيه هذا الشي، وليس المعنى أننا نحتفل بهذا اليوم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عمل فرض أن يكون هذا أصلًا؛ فإنه يجب أن يقتصر فيه على ما ورد؛ لأن العبادات توقيفية، ولوكان الاحتفال المعهود عند الناس اليوم مشروعًا لبينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إما بقوله، أوفعله، أوإقراره‏.‏

الثالث‏:‏ أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقيدونه بيوم الاثنين، بل في اليوم الذي زعموا مولده فيه، وهواليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع أن ذلك لم يثبت من الناحية التاريخية، وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك؛ فكان في اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر‏.‏

الرابع‏:‏ أن الاحتفال بمولده على الوجه المعروف بدعة ظاهرة؛ لأنه لم

السادسة‏:‏ تفسير الآية التي في سورة نوح‏.‏

يكن معروفًا على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه‏.‏

* مسألة حكم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال‏:‏

فائدة‏:‏ كل شيء يتخذ عيدًا يتكرر كل أسبوع، أوكل عام وليس مشروعًا؛ فهومن البدع، والدليل على ذلك‏:‏ أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئًا بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أوكل عام معناه أنهم شبهوها بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة‏:‏ عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهويوم الجمعة‏.‏

وليس هذا من باب العادات لأنه يتكرر، ولهذا لما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما؛ قال‏:‏ ‏(‏إن الله أبدلكما بخير منهما‏:‏ عيد الأضحى، وعيد الفطر‏)‏ ‏(‏1‏)‏، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم‏.‏

* · السادسة‏:‏ تفسير الآية التي في سورة نوح، وقد سبق ذلك وبيان أنهم يتواصلون بالباطل، وهذا خلاف طريق المؤمنين الذين يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويشبههم أهل الباطل والضلال الذين يتواصون بما هم عليه، سواء كانوا رؤساء سياسيين أو رؤساء دينيين ينتسبون إلى الدين، فتجد الواحد منهم لا يموت إلا وقد وضع له ركيزة من بعده يعني هذا الأمر الذي هوعليه‏.‏

السابعة‏:‏ جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد‏.‏

* السابعة‏:‏ جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد، هذه العبادة تقيد من حيث كونه آدميًا بقطع النظر على من يمن الله عليه من تزكية النفس؛ فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏9-10‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جبلة‏)‏ على وزن فعلة، وهوما يجبل المرء عليه؛ أي‏:‏ يخلق عليه ويطبع ويبدع، بمعنى الطبيعة التي عليها الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن كونه زكى نفسه أو دساها‏.‏

فالإنسان من حيث هوإنسان وصفه الله بوصفين؛ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ من الآية34‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ من الآية72‏]‏‏.‏

أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح؛ فإنه يرتقي عن هذا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏4-6‏]‏؛ فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدي؛ فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية؛ كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم‏.‏

وكذلك أهل العلم؛ كأبي الحسن الأشعري، كان معتزليًا، ثم كلابيًا، ثم سنيًا، وابن القيم كان صوفيًا، ثم من الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فهداه الله على يده حتى كان ربانيًا‏.‏

الثامنة‏:‏ فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر‏.‏

* الثامنة‏:‏ فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، قال أهل العلم‏:‏ إن الكفر له أسباب متعددة، ولا مانع أن يكون للشيء الواحد أسباب متعددة، ومن ذلك الكفر، ذكروا من أسبابه البدعة، وقالوا‏:‏ إن البدعة لا تزال في القلب، يظلم منها شيئًا فشيئًا؛ حتى يصل إلى الكفر، واستدلوا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار‏)‏ ‏[‏تقدم ‏(‏ص 203‏)‏‏]‏‏.‏

وقالوا أيضًا‏:‏ ‏(1)‏.‏

والمعاصي كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتراكم على القلب، وتنكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب؛ صقل قلبه وابيض ‏[‏مسند الإمام أحمد ‏(‏2/297‏)‏ وصححه أحمد شاكر، والترمذي‏:‏ كتاب التفسير/باب ‏{‏ويل للمطففين‏}‏، 9/69ـ وقال‏:‏ ‏(‏حسن صحيح‏)‏ ـ، والحاكم ‏(‏2/517‏)‏ ـ وصححه ووافقه الذهبي ـ‏.‏‏]‏، وإلا؛ فلا تزال هذه النكتة السوداء تتزايد حتى يصبح مظلمًا‏.‏

وكذلك حذر من محقرات الذنوب، وضرب لها مثلًا بقوم نزلوا أرضًا، فأرادوا أن يطبخوا، فذهب كل واحد منهم وأتى بعود، فأتى هذا بعود وهذا بعود، فجمعوها، فأضرموا نارًا كبيرة، وهكذا المعاصي ‏[‏مسند الإمام أحمد ‏(‏5/231‏)‏، وصححه الألباني في ‏(‏الصحيحة‏)‏ ‏(‏1/389‏)‏‏.‏‏]‏؛ فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب، وأشدها تأثيرًا الشهوة فهي أشد من الشبهة؛ لأن الشبهة أيسر زوالًا

التاسعة‏:‏ معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل‏.‏

زوالًا على من يسرها الله عليه؛ إذ إن مصدرها الجهل وهو يزول بالتعلم‏.‏

أما الشهوة، وهي إرادة الإنسان الباطل؛ فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل، ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى؛ لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل، والنصارى سببها الشبهة، ولهذا كانت غالبها شبهة، ولكن كثيرًا منها سببه الشهوة، ولهذا يبين الحق لأهل الشهوة من أهل البدع، فيصرون عليها، وغالبهم يقصد بذلك بقاء جاهه ورئاسته بين الناس دون صلاح الحق، ويظن في نفسه ويملي عليه الشيطان أنه لو رجع عن بدعته لنقصت منزلته بين الناس، وقالوا‏:‏ هذا رجل متقلب وليس عنده علم، لكن الأمر ليس كذلك؛ فأبوالحسن الأشعري مضرب المثل في هذا الباب؛ فإنه لما كان من المعتزلة لم يكن إمامًا، ولما رجع إلى مذهب أهل السنة صار إمامًا؛ فكل من رجع إلى الحق ازدادت منزلته عند الله ـ سبحانه ـ ثم عند خلقه‏.‏

والخلاصة‏:‏ أن البدعة سبب للكفر، ولا يرد على هذا قول بعض أهل العلم‏:‏ إن المعاصي بريد الكفر؛ لأنه لا مانع من تعدد الأسباب‏.‏

* التاسعة‏:‏ معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولوحسن قصد الفاعل، لأن الشيطان هوالذي سول لهؤلاء المشركين أن يصوروا هذه التماثيل والتصاوير؛ لأنه يعرف أن هذه البدعة تؤول إلى الشرك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولو حسن قصد الفاعل‏)‏، أي‏:‏إن البدعة شر ولو حسن قصد فاعلها، ويأثم إن كان عالمًا أنها بدعة ولو حسن قصده؛ لأنه أقدم على المعصية كمن يجيز الكذب والغش ويدعي أنه مصلحة، أما لوكان جاهلًا فإنه لا يأثم؛ لأن جميع المعاصي لا يأثم بها إلا مع العلم، وقد يثاب على حسن قصده، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ‏(‏اقتضاء الصراط المستقيم‏)‏؛ فيثاب على نيته دون عمله، فعمله هذا غير صالح ولا مقبول عند الله ولا مرضي لكن لحسن نيته مع الجهل يكون له أجر، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل الذي صلى وأعاد الوضوء بعدما وجد الماء وصلى ثانية‏:‏ ‏(‏لك الأجر مرتين‏)‏؛ لحسن قصده، ولأن عمله عمل صالح في الأصل، لكن لوأراد أحد أن يعمل العمل مرتين مع علمه أنه غير مشروع؛ لم يكن له أجر لأن عمله غير مشروع لكونه خلاف السنة؛ فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذي لم يعد‏:‏ ‏(‏أصبت السنة‏)‏ ‏[‏مسند الإمام أحمد ‏(‏5/231‏)‏، وصححه الألباني في ‏(‏الصحيحة‏)‏ ‏(‏1/389‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

فإن قال‏:‏ إني أريد بهذه البدعة إحياء الهمم والتنشيط وما أشبه ذلك‏.‏

أجيب‏:‏ بأن هذه الإرادة طعن في رسالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه اتهام له بالتقصير أو القصور، أي مقصر في الإخبار عن ذلك أو قاصر في العلم، وهذا أمر عظيم وخطر جسيم، ولأن هذا لم يكن عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا خلفاؤه الراشدون، أما إذا كان حسن القصد، ولم يعلم أن هذا بدعة؛ فإنه يثاب على نيته ولا يثاب على عمله؛ لأن عمله شر حابط كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد‏)‏ ‏[‏تقدم ‏(‏ص 203‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

العاشرة‏:‏ معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه‏.‏ الحادية عشرة‏:‏ مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح‏.‏

وأما العامة الذين لا يعلمون، وقد لبس عليهم هذه البدعة وغيرها؛ نقول‏:‏ ما داموا قاصدين للحق ولا علموا به؛ فإثمهم على من أفتاهم ومن أضلهم‏.‏

ولهذا يوجد في مجاهل أفريقيا وغيرها من لا يعرفون عن الإسلام شيئًا، فلو ماتوا لا نقول‏:‏ إنهم مسلمون ونصلي عليهم ونترحم عليهم مع أنهم لم تقم عليهم الحجة، لكننا نعاملهم في الدنيا بالظاهر، أما في الآخرة؛ فأمرهم إلى الله‏.‏

* العاشرة‏:‏ معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه، هذا ما حذر منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الغلومجاوزة الحد، وهو كما يكون في العبادات يكون في غيرها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ من الآية31‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ من الآية67‏]‏، وقد سبق بيان ذلك‏.‏

* الحادية عشرة‏:‏ مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، المضرة الحاصلة‏:‏ هي أنها توصل إلى عبادتهم‏.‏

ومثل ذلك‏:‏ ما لو قرئ القرآن عند قبر رجل صالح، أو تصدق عند هذا القبر يعتقد أن لذلك مزية على غيره؛ فإن هذا من البدع، وهذه البدعة قد تؤدي‏.‏

الثانية عشرة‏:‏ معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها‏.‏ الثالثة عشرة‏:‏ معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها‏.‏ الرابعة عشرة‏:‏ وهي أعجب العجب‏:‏ قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال‏.‏

بصاحبها إلى عبادة هذا القبر‏.‏

* الثانية عشرة‏:‏ معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها، التماثيل‏:‏ هي الصور على مثال رجل، أو حيوان، أو حجر، والغالب أنها تطلق على ما صنع ليعبد من دون الله، والحكمة في إزالتها سد ذرائع الشرك‏.‏

* الثالثة عشرة‏:‏ معرفة عظم شأن هذه القصة، أي‏:‏ قصة هؤلاء الذين غلوا في الصالحين وغير الصالحين، لكن اعتقدوا فيهم الصلاح، حتى تدرج بهم الأمر إلى عبادتهم من دون الله؛ فتجب معرفة هذه القصة، وأن أمر الغلوعظيم، ونتائجه وخيمة؛ فالحاجة شديدة إلى ذلك، والغفلة عنها كثيرة، والناس لوتدربت أحوالهم وسبرت قلوبهم وجدت أنهم في غفلة عن هذا الأمر، وهذا موجود في البلاد الإسلامية‏.‏

* الرابعة عشرة ـ وهي أعجب العجب ـ‏:‏ قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأعجب‏)‏، أي‏:‏ أكثر عجبًا وأشد، والعجب نوعان‏:‏

الأول‏:‏ بمعنى الاستحسان، وهوما إذا تعلق بمحمود؛ كقول عائشة في الحديث‏:‏ ‏(‏كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الوضوء/باب التيمن في الوضوء والغسل، ومسلم‏:‏ كتاب الطهارة/باب التيمن في الطهور وغيره‏.‏‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ بمعنى الإنكار، وذلك فيما إذا تعلق بمذموم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ من الآية5‏]‏‏.‏

وكلام المؤلف هنا من باب الإنكار‏.‏

وكلام المؤلف هنا عما كان في زمنه، حيث غفلوا عن هذه القصة مع قراءتهم لها في كتب التفسير والحديث، واعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، وهذا من أضر ما يكون على المرء أن يعتقد السئ حسنًا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ‏]‏ ‏[‏فاطر‏:‏ من الآية8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏]‏ ‏[‏الكهف‏:‏103، 104‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال‏)‏، أي‏:‏ من اعتقد أن الشرك والكفر من أفضل العبادات، وأنه مقرب إلى الله؛ فهذا كفر مبيح لدمه وماله، هذا ما أراد المؤلف، وإن كان لا يسعفه ظاهر كلامه ثم بدا لي ما لعله المراد أن هؤلاء الغالين اعتقدوا أن المنهي عنه هوالكفر المبيح للدم والمال، وأما ما دونه من الغلو؛ فلا نهي فيه، والله أعلم‏.‏

الخامسة عشرة‏:‏ التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة‏.‏ السادسة عشرة‏:‏ ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك‏.‏ السابعة عشرة‏:‏ البيان العظيم في قوله‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم‏)‏، فصلوات الله وسلامه عليه، بلغ البلاغ المبين‏.‏

* الخامسة عشرة‏:‏ التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة، أي‏:‏ ما أرادوا إلى الشفاعة، ومع ذلك وقعوا في الشرك‏.‏

* السادسة عشرة‏:‏ ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك، أي‏:‏ أرادوا أن تشفع لهم، بل ظنوا أنها تنشطهم على العبادة،وهذا ظن فاسد كما سبق ‏[‏انظر‏:‏ ‏(‏ص 374‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

* السابعة عشرة‏:‏ البيان العظيم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏لا تطروني‏)‏ الحديث، معنى الإطراء‏:‏ الغلو في المدح، والمبالغة فيه‏.‏

وهذا الذي نهى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقع فيه بعض هذه الأمة، بل أشد؛ حتى جعلوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرجع في كل شيء، وهذا أعظم من قول الناصرى‏:‏ المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏(‏بلغ‏)‏؛ أي‏:‏ أوصل وبين‏.‏

الثامنة عشرة‏:‏ نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين‏.‏ التاسعة عشرة‏:‏ التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم؛ ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده‏.‏ العشرون‏:‏ أن سبب فقد العلم موت العلماء‏.‏

* الثامنة عشرة‏:‏ نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين، وذلك بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏هلك المتنطعون‏)‏؛ فلم يرد مجرد الخبر، ولكن التحذير من التنطع‏.‏

* التاسعة عشرة‏:‏ التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، أي‏:‏ لم تعبد هذه التمائيل إلا بعد أن نسي العلم واضمحل؛ ففيه دليل على معرفة قدر وجوده أي العلم، وأن وجوده أمر ضروري للأمة؛ لأنه إذا فقد العلم؛ حل الجهل محله، وإذا حل الجهل؛ فلا ضروري للأمة؛ لأنه إذا فقد العلم؛ حل الجهل محله، وإذا حل الجهل؛ فلا تسأل عن حال الناس؛ فسوف لا يعرفون كيف يعبدون الله، ولا كيف يتقربون إليه‏.‏

* العشرون‏:‏ أن سبب فقد العلم موت العلماء، فهذا من أكبر الأسباب لفقد العلم، فإذا مات العلماء؛ لم يبق إلا جهال الخلق يفتون بغير علم‏.‏

ومن أسباب فقده أيضًا‏:‏ الغفلة والإعراض عنه، والتشاغل بأمور الدنيا، وعدم المبالاة به‏.‏

ثم إن العلم قد يكون موجودًا وهومعدوم، وذلك فيما إذا كثر القراء الذين يقرؤون العلم ولا يعلمون به، وقل الفقهاء الذين يعملون به؛ فبهذا يصبح العلم عديم الفائدة ووجوده كعدمه، بل إن في وجوده ضررًا على الأمة؛ لأن العامة إذا رأوا من ينتسب إليه ساكتًا غير عامل بما علم؛ ظنوا أن ما عليه الناس حق‏.‏

فضرر العلم الذي لا ينفع أشد من ضرر الجهل، وإذا وجد الجهل؛ فإن الناس قد يطلبون العلم ويتلمسونه‏.‏

* · الخلاصة للباب‏:‏

بيان أن الغلو في الصالحين من أسباب الكفر، وليس هو السبب الوحيد للكفر‏.‏

وأن خطر الغلوعظيم ونتائجه وخيمة؛ فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم؛ فلا يستوي الصالح والفاسد، بل ينزل كل منزلته، ولكن لا نتجاوز به المنزلة فنغلوفيه؛ فدين الله وسط لا يعطي الإنسان أكثر مما يستحق، ولا يسلبه ما يستحق، وهذا هو العدل‏.‏

س1‏:‏ ما الفرق بين التنطع والغلو والاجتهاد‏؟‏

الجواب‏:‏ الغلو مجاوزة الحد‏.‏

والتنطع معناه‏:‏ التشدق بالشيء والتعمق فيه، وهو من أنواع الغلو‏.‏

أما الاجتهاد؛ فإنه بذل الجهد لإدراك الحق، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالاجتهاد كثرة الطاعة غير المشروعة؛ فقد تؤدي إلى الغلو، فلو أن الإنسان مثلا أراد أن يقوم ولا ينام، وأن يصوم النهار ولا يفطر، وأن يعتزل ملاذ الدنيا كلها؛ فلا يتزوج ولا يأكل اللحم ولا الفاكهة وما أشبه ذلك؛ فإن هذا الغلو، وإن كان الحامل على ذلك الاجتهاد والبر، ولكن هذا خلاف هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

س2‏:‏ ما حكم الذهاب إلى قبور الصالحين لقراءة الفاتحة‏؟‏

الجواب‏:‏ هذا من البدع، وسواء قلنا يصل الثواب أولا يصل؛ فكونك تتخذ القراءة عند القبر خاصة هذا من البدع‏.‏

وإنما اختلف السلف فيما إذا قرئت الفاتحة عند الميت بعد دفنه مباشرة أوغيرها من القرآن‏.‏

والصحيح أيضا أنه ليس بسنة، والسنة أن تستغفر له وتسأل له التثبيت‏.‏

* * *